أبدية الشريعة عند كل أمة

طبيعي أن يكون موضوع الشريعة وخلودها أولى المسائل التي تثيرها الأمم عند ظهور دعوة جديدة بشريعة جديدة فيها أحكام وقوانين ونظم جديدة. أما إذا ظهر مئات المصلحين في ظل الشريعة القائمة فلن يثير ظهورهم سوى اهتمام محدود قد يتحول في بعض الحالات إلى نزاع طائفي حول العقيدة وتفسير الكتاب، الا انه لا يخرج عن ظل الشريعة القائمة بين أهلها بأي حال كما حدث بين أهل الأديان . ولكن عندما تتناول الدعوة الجديدة تعديل أحكام الشريعة القائمة، فإن المسألة تخرج بأجمعها عن الدائرة المحدودة، ويرجع الناس إلى كتاب الله يحاجون به صاحب هذه الدعوة الجديدة، ويتمسكون بظاهر النصوص المباركة ويعلنون أن شريعتهم أبدية لا يمكن أن يطرأ تعديل على حكم من أحكامها بأي حال، لأنها صالحة لكل زمان. فقد قال في التوراة – ملاخي 4 – “اذكروا شريعة موسى عبدي التي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام” وجاء في الإنجيل – متى 24 “الأرض والسماء تزولان ولكن كلامي لا يزول” وقال تعالى في سورة المائدة 3 “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” تمسكت كل أمة بظواهر هذه النصوص المباركة وأعلنت أن شريعتها أبدية، ولكن الواقع ان الشرائع تعددت رغم إصرار كل أمة على خلود شريعتها. فاليهود مثلاً لا يزالون يعلنون إلى اليوم بحكم ظاهر نص التوراة ان شريعتهم خالدة، بينما جاءت الشريعة المسيحية، وتلتها الشريعة الإسلامية. ولكي نتصور مقدار عمق هذه العقيدة في نفوس أهلها ما علينا إلا أن نرجع إلى التوراة فنجد فيها في أكثر من موضع أن اليهود ينتظرون عودة ايليا من السماء وظهور المسيح وظهور النبي، ويعتقدون أن هؤلاء لا بد يظهرون. وفعلا ظهر ايليا (يوحنا، أي يحيى بن زكريا) وظهر المسيح، وظهر النبي الكريم ومع ذلك أنكروهم اليهود لسبب واحد فقط وهو أنهم جاءوا بشريعة غير شريعة التوراة.

ويرجع هذا الإعراض إلى سبب واحد وهو فهم آيات الكتاب على غير ما وضعت له، وإلا فكيف نجد في كتب الله تعالى آيات صريحة عن رسالات جديدة تنزل من سماء مشيئة الله ورحمته: “ولكم ايها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها…” – ملاخى 4 – “ان لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون ان تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق” إنجيل – يوحنا – 16، وقال تعالى “يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق” – النور 25 – ومع هذه الصراحة فان العقيدة الراسخة عند كل أمة بأن شريعتها أبدية تجعلها تلجأ إلى التفاسير لتثبت من أركان هذه العقيدة، فيقول أهل الإنجيل، وهو مثال على ما يقوله أهل الأديان الأخرى، بأن المراد من “روح الحق” الذي يرشد “إلى جميع الحق” هو روح القدس الذي حلَّ على التلاميذ، ولم يكن أبداً معنى الآية الكريمة أن يظهر رسول جديد من عند الله. ولكن التلاميذ الذين حلَّ فيهم روح القدس هم أنفسهم يبشرون برسول جديد وحكم جديد، فقد جاء في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين ص 10 “لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد، لأنه بعد قليل سيأتي الآتي ولا يبطئ”. وأيضا حاً لهذا، جاء أيضا في رسالته الأولى لكورنثوس 13 “لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض”. فأي صراحة أعظم من هذه البيانات التي تبشر بغاية الجلاء عن رسول جديد وحكم جديد ‍!
ان دين الله، كما يوضحه “بهاء الله ” في كتاب “الإيقان” هو واحد لا يتغير في جوهره، وان شريعة الله النازلة بالأحكام والقوانين والنظام كاملة في دورتها وزمإنها ، وان هذه الدورة الكاملة تحدد أجل الأمة الكامل “ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون” – سورة الأعراف 34، وان لكل أجل كتاب “وما كان لرسول أن يأتي بآية الا بإذن الله لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب” – سورة الرعد 38.
هذا معنى الموعد الذي أشار اليه الإنجيل في قوله “حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد”، ولما كانت شريعة الله هي الأحكام والقوانين المنظمة للعالم فإنها تتعدل بإرادة الله تبعاً لحاجة العالم في مراحل تقدمه، أما الدين في جوهره فلا يعتريه تعديل، انه أزلي أبدي، وهو الأول والآخر “ان آباءنا جميعا كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيا، وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا، فانهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” كورنثوس الأولى ص 10 – وقال تعالى في سورة الشورى 13 “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” فجوهر الدين واحد، ورسل الله واحد “لا نفرق بين أحد من رسله” سورة البقرة 285. فإذا قال أحدهم أنا الأول والآخر فهو حق “لأنك إذا نظرت اليهم بنظر لطيف لتراهم جميعاً ساكنين في رضوان واحد، وطائرين في هواء واحد، وجالسين على بساط واحد، وناطقين بكلام واحد، وآمرين بأمر واحد” بهاء الله – إيقان.
ومن هنا تبين ان الشريعة باقية وصالحة لدورتها وزمإنها لا يستطيع بشر مهما أوتي من قوة أن يبدل حرفاً منها، حتى إذا تم ميقاتها وانحرف عنها أهلها وجاء رسول جديد أتى بشريعة جديدة تناسب العصر الذي جاء فيه والتطور الذي وصلت اليه البشرية. ولا يمكن لأحد أن يغير تلك الشريعة السابقة الا الرسول المؤيد بقوله تعالى “ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها” – (البقرة 106)
((((عن كتاب مناهج الحق ))))